مــقــدمة
الشعر عند العرب هو الأثر العظيم الذي حفظ لنا حياة العرب في جاهليتهم. وإذا كانت الأمم الأخرى تخلد مآثرها بالبنيان والحصون فإن العرب يعولون على الشعر في حفظ تلك المآثر ونقلها إلى الأجيال القادمة .
وقد اجتهد عدد من الباحثين فحاولوا تعليل نشأة الشعر العربي، فمنهم من قال إن شعراء العرب عندما سمعوا وقع أخفاف الإِبل على الأرض قلدوها فأنشأوا الأوزان الشعرية وقد ساعدهم في ذلك الحُدَاء وهو سَوْقُ الإبل والغِنَاءُ لها ، ومنهم من قال إن أصل الأوزان الشعرية السجع الذي تطور إلى بحر الرجز ، ثم نشأت البحور الشعرية الأخرى. ومنهم من قال إن أصل الأوزان يرجع إلى الغناء , فالعربي في صحرائه يحتاج إلى الترانيم والغناء فيأخذ مقاطع من الكلام يغني بها فتطور ذلك حتى أصبح شعراً موزوناً مقفى ، والشعر العربي قديم ولكن الذي وصل إلينا هو ما قيل في العصر الجاهلي.
ومواطن نشأة الشعر الجاهلي بلاد نجد والحجاز والبحرين (شرقي الجزيرة العربية(، أما اليمن وعمان فلم تكونا موطناً لنشأة الشعر العربي ؛ أما اليمن فكانت لغته في الجاهلية اللغة الحميرية، وأما عمان فكان يخالط سكانه الفرس والهنود. ومن خلال تتبعنا لنشأة الشعر واكتماله يظهر لنا أن امرأ القيس هو رائد الشعر الجاهلي، لأن شعره هو أول شعر قوي مكتمل يتناقله الرواة.
وسوف يلقى هذا البحث بعض الضوء على سيرة وأعمال شاعر العصر الجاهلى الأول " امرؤ القيس " لأنه يعبر بشكل كبير عن هذه الحقبة الزمنية المميزة فى تاريخ الشعر العربى ويحوى شعره أبرز خصائص ومميزات الشعـر العربى فى هذه الفترة.
الفصل الأول
امرؤ القيس – اسمه – كناياته - نسبه
( 130 - 80 ق. هـ = 496 - 544 م (
اسمه
هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثور وهو كندة. شاعر جاهلي يعد أشهر شعراء العرب على الإطلاق، يماني الأصل، مولده بنجد. كان أبوه ملك أسد وغطفان، ويروى أن أمّه فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير أخت كليب ومهلهل ابني ربيعة التغلبيين.
كناياته
ذكر صاحب الأغاني عن أبي عبيدة، أن امرأ القيس كان يكنى أبا الحارث، ويذكر غيره أنه كان يكنى أبا وهب ، وذكر صاحب بغية الطلب - الوزير ابن القاسم المغربي - أن اسمه حندج، وامرؤ القيس لقب غلب عليه لما أصابه من تضعضع الدهر ومعناه رجل الشدة.
ويذهب الأب لويس شيخو نقلاً عن مؤرخي الروم أن أسمه "قيس" وأنه مذكور بهذا الاسم،
وأنه كان يقال له "الملك الضليل" و قيل له "ذي القروح".
وفي ذلك قول الفرزدق :
وهب القصائد لى نوابغ إذ مضوا أبو اليزيد وذو القروح وجرول
وشكك بعض المعلقين الأوائل في أن هذا هو الاسم الحقيقي للشاعر الذي اسماه ابن قاسم المغربي "جنداه" مفسراً أن اسم امرؤ القيس كان مجرد اسم مستعار فقط. يقولون إن امرؤ القيس تعني "رجل الأسى" وإن الاسم المستعار أعطي للشاعر بسبب المحن التي واجهها. يقول الشيخ محمد عبده، أعظم دارس للعربية في عصرنا، إن هذا غير صحيح. يؤكد أن معنى امرؤ القيس ببساطة هو "الرجل" أي عبد قيس، أحد الآلهة الوثنية عند العرب، وإن الاسم استخدم دوماً كاسم علم مثلما يستخدم المسلمون الآن اسم عبد الله والمسيحيون عبد المسيح. صحيح أن قيس تحمل معنى الأسى أو المصاعب وربما كان الصنم يعني قديس الأسى الورع. ويتكلم المؤرخون اليونانيون عن الشاعر ببساطة باسم قيس.
وقال دبليو إى كولستون عن امرئ القيس في كتاب من تحريره وتقديمه عن الشعر العربي: كان ابن حجر بن الحارث أميراً من قبيلة كندة. اسمه الحقيقي صندج، سمي امرؤ القيس لكثرة ما ألم به من مصائب. أطلق الرسول عليه لقب "الملك الضليل" لكونه أفضل شعراء عرب الجاهلية، كما قال فيه أيضاً إن بإمكانه قيادته إلى المحن. يلمح إلى مغامراته الغرامية مع فتاة من قبيلة أخرى في معلقته.
نسبه
والده حجر بن حارث أمير قبيلتي بني أسد وقطفان في اليمن. أنزل منزلة خاصة في خيمة والده كونه أصغر أخوته، وكذلك احتفت به نساء القبيلة في شبابه لوسامته وفطنته، ونسبت له كثير من المغامرات الغرامية بما في ذلك ما ذكره في معلقته.
قال الشعر وهو غلام، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلك أباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته، فأبعده إلى حضرموت موطن أبيه وعشيرته، وهو في نحو العشرين من عمره. أقام زهاء خمس سنين، ثم جعل يتنقل مع أصحابه في أحياء العرب، يشرب ويطرب ويغزو ويلهو، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه فقتلوه، فبلغه ذلك وهو جالس للشراب فقال:
رحم الله أبي! ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً،
لا صحو اليوم ولا سكر غداً،
اليوم خمر وغداً أمر.
عاش امرؤ القيس حياة غنيّة بالتجربة بين قطبي اللهو الحرب. وكان في عزّة ورخاء عيش حين كان أبوه ملكاً، يلهو ويشرب ويذهب إلى الصيد ويقول الشعر، إلى أن طرده أبوه فكان يسير في أحياء العرب مع شذّاذهم مواصلاً حياة اللهو والشرب والأكل والغناء. وبعد مقتل أبيه حرَّم على نفسه الخمر والنساء حتى يأخذ بثأره، وواصل السعي لاسترداد الملك المفقود.
الفصل الثانى
نشأته وحياته الإجتماعية
____________________________________________
سيرة امرئ القيس تكشف جوانب تاريخية مهمّة من تاريخ القبائل العربية في تلك الحقبة، من اليمن إلى أواسط شبه الجزيرة وشمالها، وتتضمّن صورة من صور الصراع المحتدم بين الروم والفرس وعملائهم من الغساسنة واللّخميين. وكان امرؤ القيس قد طاف في طول شبه الجزيرة وعرضها باحثاً عن أنصار لدعمه في سعيه للثأر لأبيه واسترداد ملكه أو هارباً من أعدائه. لقد استنصر أولاً بكراً وتغلب فنصروه وقاتلوا معه بني أسد حتى كثرت فيهم الجرحى والقتلى وهربوا، ولكنهم رفضوا أن يلحقوا ببني أسد حين أراد امرؤ القيس أن يتبعهم بحجة أنه قد أصاب ثأره. فذهب إلى اليمن واستنصر أزد شنوءة فأبوا أن ينصروه. فلحق بحمير فساعدته، واستأجر من قبائل العرب رجالاً وسار بهم إلى بني أسد، والتقاه المنذر ومعه جيوش من إياد وبهراء وتنوخ مع جيش من الأساورة أمدّه به أنو شروان. فتفرَّقت حمير وهرب هو وجماعنه، فنزل في رجل من بني حنظلة ولبث عنده حتى بعث المنذر إلى الرجل مائة من أصحابه يوعده بالحرب إن لم يسلِّم امرأ القيس وجماعته، ونجا امرؤ القيس وابنته هند ويزيد بن معاوية بن الحارث ابن عمه، والتجأ عند سعد بن الضباب الإيادي، ثم نزل في بني نبهان من طيء، وبعدها انتقل إلى رجل من بني ثعل من طيء استجار به فوقعت بين الثعلي وبعض أعداء امرئ القيس حرب فخرج من عندهم ونزل برجل من بني فزارة قيل إنه هو من نصحه بالذهاب إلى قيصر، وأرسله إلى السموأل بتيماء فاستودعه دروعه وماله وابنته وبقي معها ابن عمه. وبعث به السموأل إلى الحارث بن أبي شمر الغسّاني بالشام الذي أوصله إلى قيصر. والحارث، وهو الذي ملَّكه الإمبراطور البيزنطي على الشام ليقاتل أعداء الإمبراطورية وبالأخص أنصار الفرس من العرب وعلى رأسهم اللخميين ممثلين بالمنذر بن ماء السماء، عدو امرئ القيس، ليس من المستغرب أن يساعد عدوّ عدوّه على الوصول إلى غايته ليشتد في قتال ذلك العدو. ولا مجال لإثبات ما إذا كان قيصر قد دعمه بجيش كما قال الرواة العرب، وليس بمستبعد أن لا يفعل ذلك خصوصاً إذا قبلنا الافتراض بأن امرأ القيس توجَّه إليه بعد توقيع هدنة الخمسين سنة مع أنو شروان، بعد استرداد أنطاكية.
إن ما يبرز ممّا ذكرنا من أحداث هو أن هذه الفترة من تاريخ العرب كانت فترة صراع داخلي بين القبائل العربية المشتَّتة الولاء بين الروم والفرس، القوَّتين العظميين في ذلك الزمان، وقطبي الصراع السياسي العنيف في ذلك التاريخ، وكانت تلك المرحلة مرحلة انحسار سياسي واقتصادي واجتماعي في تاريخ شبه الجزيرة العربية، فاليمن سقط سنة 525م. تحت الاحتلال الحبشي، وسقطت بذلك مملكة كندة التي استمدَّت كيانها وقوّتها من اليمن، وتناثرت القبائل التي اتحدت تحت لوائها بعد أن كانت ? على حدّ قول برنارد لويس- بما حقَّقته من مكانة وانتصارات وتوسّع، أعظم اتحاد قبل الإسلام، بين قبائل الشمال والوسط، وصلت إلى ذروة نضجها في القرن السادس الميلادي، ولها تدين اللغة العربية الموحَّدة ويدين التراث الشعري الموحَّد، بنشأتهما وتطوّرهما.
وقد أخفقت محاولة امرئ القيس في تجميع شتات تلك القبائل وإعادة بناء المملكة، وكانت محاولة فردية جاءت في وقت عمَّ فيه الانحلال والفوضى والانهيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وظلَّ الانحدار مستمراً، ولكنه كان ينطوي على بذور نهضة كبيرة فتَّقتها الدعوة الإسلامية ففجَّرت انبعاثاً حضارياً أصيلاً حقَّق للعرب وحدتهم السياسية ودولة امتدَّت من الصين إلى أواسط أوروبا.
غضب والده عليه بسبب فضائحه وإفراطه في شعر الحب، فأرسله كما الحال والشباب في هذه الأيام ليرعى إبله في مكان بعيد في الصحراء، لكن هذا لم يستمر طويلاً. أهمل مهمته وقضى وقته في نظم الشعر عن دوابه وفرس والده، حتى أوكل إليه العمل كمجرد راعي خراف ما أعتبره امرؤ القيس إهانة عظيمة. جرح هذا كبرياءه فرفض وخرج في زمرة من الصعاليك حتى طرد أخيراً من مناطق نفوذ والده.
أتاه أثناء تجواله نعي أبيه وقد قتل في تمرد بني أسد. أوصى الوالد قبل موته بمواشيه وقطعانه لمن يأخذ بثأره من أبنائه ولا يبكي حين يأتيه خبر موته. بكى الأبناء الكبار كلهم، لكن امرؤ القيس كان منهمكاً في لعبة الداما عند وصول الخبر فلم يوله اهتماماً حتى أتم لعبته وربحها. ثم دون إشارة على أسى نهض وامتطى حصانه وعاد مع الرسل الذين جلبوا الخبر ليستعد للأخذ بالثار. هذا ما أراده حجر وبذلك حصل امرؤ القيس على الإرث.
نهاية حياته
لم تكن حياة امرؤ القيس طويلة بمقياس عدد السنين ولكنها كانت طويلة وطويلة جدا بمقياس تراكم الإحداث وكثرة الإنتاج ونوعية الإبداع. لقد طوف في معظم إرجاء ديار العرب وزار كثيرا من مواقع القبائل بل ذهب بعيدا عن جزيرة العرب ووصل إلى بلاد الروم إلى القسطنطينية ونصر واستنصر وحارب وثأر بعد حياة ملأتها في البداية باللهو والشراب ثم توجها بالشدة والعزم إلى أن تعب جسده وأنهك وتفشى فيه وهو في أرض الغربة داء كالجدري أو هو الجدري بعينه فلقي حتفه هناك في أنقرة في سنة لا يكاد يجمع على تحديدها المؤرخون وان كان بعضهم يعتقد أنها سنه 540م.
لقد ترك خلفه سجلا حافلا من ذكريات الشباب وسجلا حافلا من بطولات الفرسان وترك مع هذين السجلين ديوان شعر ضم بين دفتيه عددا من القصائد والمقطوعات التي جسدت في تاريخ شبابه ونضاله وكفاحه, وعلى الرغم من صغر ديوان شعره الذي يضم الآن ما يقارب من مئة قصيدة ومقطوعة إلا انه جاء شاعرا متميزا فتح أبواب الشعر وجلا المعاني الجديدة ونوع الإغراض واعتبره القدماء مثالا يقاس عليه ويحتكم في التفوق أو التخلف إليه.
ولذلك فقد عني القدماء بشعره واحتفوا به نقداً ودراسة وتقليداً كما نال إعجاب المحدثين من العرب والمستشرقين ، فأقبلوا على طباعته منذ القرن التاسع عشر في سورية ومصر وفرنسا وألمانيا وغيرها من البلدان التي تهتم بشؤون الفكر والثقافة.
الفصل الثالث
معلقة امرؤ القيس
تعريف ونقد
_________________________________________________
تكاد كلمة العلماء بالشعر تتفق، في ما يتعلق بمنزلة المعلقة، على أن أفضل تراث أدبي ورثه العرب من شعر الجاهلية "معلقة امرئ القيس"، ويعدون ابتداءها أفضل ابتداء من مطالع الشعر العربي. وقد بلغت من الشهرة في عالم الأدب والشعر، منزلة ليست لغيرها، حتى جعلت مثلاً أعلى في الجودة، وحتى ضرب بها المثل في الحسن والشهرة، فقيل: "أشهر من قفا نبك!" "وأحسن من قفا نبك!".
وما زالت هذه المعلقة- ولا تزال- معيناً يستمد منه الأدب العربي ثروة جديدة، وركيناً يقيم عليه صروح مجده في الماضي والحاضر. وهي أشبه شيء بالخزائن المدفونة المشحونة بصنوف من الجواهر والأعلاق النفيسة، كلما ازداد المنقبون فيها بحثاً رأوا مما فيها من الذخائر الرائقة، والآيات الرائعة، ما لم يروه من قبل. فلا يكاد ينفد ما فيها من أنواع الحسن والروعة!.
وحسبك دليلاً ناصعاً، وبرهاناً قاطعاً على هذا، أنك لا تجد كتاباً في اللغة والأدب (على اختلاف أنواعهما وتعدد أشكالهما) إلا ولامرئ القيس فيه أبيات يتمثل بها، ويحتج بها، ويشار إلى مواطن الجمال الباهر، والفن الساحر فيها. فمعلقة امرئ القيس وشعره كله، عماد قام عليه الأدب العربي في القديم والحديث، ومثال احتذاه الأدباء في كل جيل. ومهما تبدل الأدب بتبدل الزمان وأهله، وتغير بتغير حياتهم الاجتماعية والعقلية، فإن في شعر امرئ القيس ما يصلح أن يكون مثلاً أعلى في كل جيل وطور، وفي كل بيئة.
وذهب بعض العلماء، حول سبب نظم المعلقة، إلى أن امرأ القيس كان يعشق عنيزة وأخذ ثيابها يوم الغدير مع صواحباتها، ثم عقر لهن ناقته ثم ركب معها ناقتها فدخل عليها الهودج، كما تقدم. ثم نظم المعلقة وذكر هذه القصة فيها. وإذا صح أن هذا وحده هو السبب لنظمها، فقد يؤخذ عليه عدم وحدة الموضوع في القصيدة، لأنه ذكر فيها وصف الجواد والليل والبرق والسحاب. ويجوز أن يكون يوم الغدير سبباً من جملة الأسباب، وأن الشاعر كان مولعاً بالشعر، فاستهل هذه القصيدة بالغزل، وثنى فيها بقصة الغدير لولعه بالنساء والتشبيب بهن، ثم عززها بوصف الجواد لأن ركوب الخيل في المنزلة الثانية عنده في اللذاذة.
واستطرد إلى وصف الصيد والطبيعة، جرياً على سنة الجاهلية في عدم الوحدة واشتمال القصيدة الواحدة على أغراض متعددة. ومما لا ريب فيه، أن هذه القصيدة وليدة الشباب، وربيبة الصبا: نظمها الشاعر حين لم يكن في قلبه ما يشغله إلا الصبوة والطموح في سبيل الشهوة، قبل أن تملأ المصائب قلبه، وتنيخ عليه بكلكلها. ولذلك يرى الباحث فيها ماء الشباب يترقرق في تضاعيف كلماتها، ونضرة النعيم تتراءى في أسرتها.
أما العوامل التي أثرت في نفس الشاعر، واقتنص معانيه وأخيلته منها في هذه القصيدة، وكان لها الأثر البين فيها، فهي: لواعج الحب التي تعتلج في صدره لعنيزة، وفاطم، وأم الرباب، وغيرها؛ مشاهدة المنازل التي كانت فيها أحبابه ثم رحلوا عنها، والصحارى التي اجتابها، والمياه التي وردها، والأودية التي قطعها، والجبال والأماكن التي شاهد نزول المطر عليها، وشام البرق من جهتها، والمطر الذي رأى آثاره في بعضها؛ وقد ذكرها في شعره كالدخول وحومل وتوضح والمقراة ودارة جلجل ووجرة وضارج والعذيب وقطن ويذبل والقنان وثبير وصحراء الغبيط وما شاكل ذلك؛ الحياة الاجتماعية التي كان يعيشها الشاعر حين نظمها: فهي تمثل لنا نوعاً من مجانته، وتعيهره، وتذلـله لمن يحب. ونوعاً آخر من اجتيابه الصحارى والأودية، ومطاردة الوحش، واتخاذ الأطعمة منه في الفلوات. ونوعاً ثالثاً من خدمة أصحابه، وحمله الماء على ظهره لهم، ونحو ذلك مما يدل أن حياته حياة الصعاليك والشذاذ والخلعاء.
وقد اشتملت هذه المعلقة على أغراض متنوعة يمكن ردها إلى ثلاثة أمور:
الأول: الغزل والتشبب: ويندرج فيه بكاء الديار، والوقوف فيها، وعقر المطية للعذارى، ودخول خدر عنيزة، وحديثه معها ومع فاطم، وتشبيه المرأة بأنواع من المشبهات، ووصف الليل والشكوى من طوله.
الثاني: وصف الخيل: ويندرج فيه وصف الوحش، وصيده والأودية، ويتبعها حديثه مع الذئب. الثالث: وصف الطبيعة: ويندرج فيه وصف الجبال والصحارى، والمطر والسيل، وآثاره. وقد أطال في الأول لأنه مولع بالمرأة وهي غاية المتمنى والمشتهى عنده. وكذلك أطال في الثاني لأن ركوب الجواد عنده لذة تقارب أو تقارن لذة المرأة يدلك على ذلك قوله:
كأني لم أركب جواداً للذة- ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال! ?
بل قدم في هذا البيت لذة الجواد على تبطن الكاعب.
ولم يطل في الثالث، لأنه أدنى منزلة في نفس الشاعر من سابقيه. وإذا أمعن الباحث النظر في هذه المعلقة، ثم عرضها على محك النقد والتمحيص، يتبين له فيها أشياء هي في الدرجة القصوى من البلاغة، وأشياء يؤخذ بها صاحبها إن كانت سالمة من عبث الرواة وتحريف النساخ. والغالب على الظن أنها لم تسلم لكثرة ما فيها من الروايات المضطربة. أما محاسنها، وهي أكثر ما فيها، وهي التي جعلها مضرباً للمثل في الشهرة حتى قيل "أشهر من قفا نبك!" فهي: إن أسلوب الشاعر يسهل حيث تطلب السهولة، ويشتد أسره حيث يقتضي المقام ذلك. فكلامه في الغزل رقيق لطيف عذب، يتلاءم مع المتغزل بها رقة ورشاقة، كأنما يتخيره من لؤلؤ رطب.
وكلامه في وصف الجواد والوادي والصيد وما شاكل ذلك متين جزل، كأنما ينحته من صخر صلد: فأسلوبه أسلوب ساحر ماهر لبق. إنه مجود في التشبيه، بارع فيه. وأكثر ما يكون لديه المشبه به محسوساً لأنه أقرب إلى التناول وأرسخ في النفوس. ولا يخرج المشبه به عما تتضمنه البيئة البدوية، والحياة الفطرية: فهو إذا أراد أن يشبه أعضاء المرأة بشيء يشعر بالجمال شبهها بالمهاة في عينها، وبالظبي في جيده وببيضة النعام في لونها، وشبه أناملها بالأساريع، وليس في المحيط البدوي مثل أعلى للجمال في هذه الأنواع إلا هذه الأشياء. وإذا أراد أن يشبه الجواد، شبهه بالجلمود يحطه السيل من عل، وبخذروف الوليد في سرعته، وشبه ظهره بمداك العروس، وشبه عنقه المضرج بالدماء، بالشيب المخضب بالحناء. وإذا أراد أن يشبه البرق شبه خفقانه بحركة اليد، وضوءه بمصباح يهان السليط فيه. وهكذا شأنه في كل تشبيه.
وهذه التشبيهات توضح المعنى المقود توضيحاً تاماً. وليس في البادية شيء أدل على المراد، وأبين للغرض منها؛ وهي تمثل المشبه تمثيلاً صحيحاً تاماً. أنه مجود في الاستعارات، محسن لتخير اللطيف منها؛ فإنه لما أراد أن يعبر عن طول الليل، شبهه بشيء له صلب وكلكل وأعجاز. واستعار السهم للعين، ليدل على شدة تأثيره في الفؤاد. واستعار الصيد للقلوب، في قوله "وهر تصيد قلوب الرجال" ليدل على شدة استيلائها على القلوب. أنه بارع في تخير الكنايات: فإنه لما أراد أن يصف المرأة بطيب الرائحة وطراوة الجسم، كنى عن ذلك بأن فتيت المسك فوق فراشها، وأنها نؤوم الضحى، وأنها لا تلبس الفضل للامتهان.
وكنى عن اقتلاع السيل الشجر بقوله "يكب على الأذقان دوح الكنهبل" وكنى عن تباهي محبوبته في الجمال، وعن حداثة سنها بقوله:
إلى مثلها يرنو الحليم صبابة إذا ما اسبكرت بين درع ومجول
وكنى عن ارتفاع موضع بقوله"نيافاً تزل الطير عن قذفاته". إنه ماهر في التصوير فإذا وصف لك شيئاً أحاط بالموصوف من كل ناحية يطلبها تحقق ذلك الموصوف وتفوقه فيها، فقد وصف الجواد من النواحي التي يتطلبها وصفه بالقوة والسرعة، فجعله مقيداً للوحش، سريعاً مطاوعاً لا يتعبه الجري، ولا يفوته الوحش، ووصف ظهره وخاصرتيه وساقيه وجريه، وهذا ما يتطلب وصفه في الجواد من حيث صلوحه للكر والفر وطرد الصيد وزاد على ذلك فوصف لونه وذنبه. ولما عن له السرب وصف لونه واجتماعه ثم تفرقه حتى كأن السامع يراه، وكذلك وصفه السحاب والسيل وآثارهما. أنه بارع في تصوير الخيال أو الحال الواقعة فإنه لما قص دخوله على عنيزة الخدر وخروجه بها أرانا كيف كانت تعفي الأثر بذيلها وكيف هصر بفوديها وكيف كان الغبيط يميل بهما. وأسمعنا لومها إياه وعداءها عليه حتى كأننا نرى ونسمع ذلك حقيقة. وكذلك حديثه في الوادي مع الذئب وتصوير اجتماع المها وافتراقها .
فهو مصور بارع يؤثر كلامه العذب في النفوس ما لا تؤثره ريشة المصور. إن ابتداء هذه القصيدة أفضل ابتداء صنعه شاعر لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد. وإنه ختمها بوصف السيل ولم يتعمد جعله خاتمة كما فعل غيره من أصحاب المعلقات، مع أنها أفضلها، رغبة في إطراح الكلفة وحتى تبقى النفس متعلقة بها طامعة في بقية الكلام.
ومما يؤخذ به في المعلقة: وحدة الموضوع فيها، فإنها جمعت بين الغزل والطرد ووصف الجواد والبرق والسحاب الخ. عدم التلطف في الانتقال من غرض إلى غرض: فبينا هو يتغزل ينتقل إلى وصف نفسه بالدماثة والشجاعة ثم يقفز إلى الوادي فيدور حديثه مع الذئب ثم يطفر إلى وصف الجواد وهكذا شأنه في شعره كله. عدم الترتيب الطبيعي في الغرض الواحد: فهو عندما أراد أن يصف محبوبته وصف خصرها وترائبها ثم انتقل إلى خدها وعينيها ثم نزل إلى جيدها ثم ارتقى إلى شعرها ثم هبط إلى كشحها وساقها ثم ذهب إلى فراشها ثم وصف يديها. وكذلك شأنه في الجواد فإنه وصف خاصرتيه وساقيه ثم انتقل إلى ذنبه ثم وصف ظهره. عدم إحاطته بالموصوف من كل ناحية إحاطة تامة: فلو أكمل وصف المرأة فوصف ثدييها وحديثها وأنفها وأسنانها وما شاكل ذلك لجاءت صورة كاملة، وكذلك لو وصف أذني الجواد وجمجمته وعرفه وحوافره لكانت الصورة تامة. وجود الإقواء في مثل قوله: "كبير أناس في بجاد مزمل". وقوله: "ونصف بالحديد مكبل". ولكن هذه الأمور لا تعد شيئاً في جانب ما فيها من المحاسن والروائع التي فتح بها الباب، ومهد السبيل لمن أتى بعده، والكمال لله وحده.
ومعلقة امرئ القيس، كما رأت ريتا عوض، ذات قيمة أدبية كادت تنفرد بها في التراث الشعري العربي، حتى قال عنها ابن الكلبي: إن أول شعر علّق في الجاهلية شعر امرئ القيس، وجعلها الباقلاني (م 403 هـ) المثال الذي اختاره العرب للشعر والمرجع، يقاس كل ما عداها بها، فقال: "ولمّا اختاروا قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها وقرنوا بها نظائرها. ثم تراهم يقولون: لفلان لامية مثلها، ثم ترى أنفس الشعراء تتشوّف إلى معارضته وتساويه في طريقته". ولذا انتقاها موضوعاً لدراسة متقصِّية يثبت فيها تهافتها، وهي رمز ما اعتدَّ به العرب من شعر، أمام إعجاز اللغة القرآنية التي لا تدانيها ? في رأيه- لغة بشرية في كتابه إعجاز القرآن. وأكَّد ابن عبد ربه (م 328 هـ)افتتان العرب بشعر المعلَّقات فقال: "حتى لقد بلغ من كلف العرب به (الشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيَّرتها من الشعر القديم فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلَّقتها على أستار الكعبة، فمنه يقال مذهّبة امرئ القيس ومذهّبة زهير، والمذهّبات السبع. وقد يقال لها المعلّقات".
كذلك وجدت المعلّقة عناية كبيرة من الباحثين المحدثين عرباً ومستعربين كما ذكرنا في مقدّمة هذا البحث، وترجمت مع غيرها من المعلّقات إلى كثير من الّلغات، ووضعت في أبياتها الشروح والتعليقات وكتبت الدراسات، حتى إن المستشرق الإنكليزي آربري قال إن معلّقة امرئ القيس كانت ذات أثر ساحق... على عقول المؤلِّفين اللاحقين وخيالهم... وليس من قبيل المبالغة القول (إن المعلّقة) هي في الوقت نفسه، أشهر قصيدة في الأدب العربي بأسره وأكثر القصائد العربية نيلاً للإكثار وأشدّها تأثيراً".
تتألف المعلَّقة في رواية الأصمعي كما وردت في نسخة الأعلم الشنتمري من سبعة وسبعين بيتاً. وقد بلغت أبيات القصيدة واحداً وثمانين بيتاً في روايات أخرى كالتي شرحها ابن الأنباري وابن النحاس والبطليوسي والزوزني والتبريزي، ووصلت إلى اثنين وتسعين بيتاً في الرواية التي اعتمدها أبو زيد القرشي في جمهرة أشعار العرب. وقد اختارت هذه الباحثة تحليل رواية الأصمعي في نسخة الأعلم، التي اعتمدها محمد أبو الفضل إبراهيم، محقّق ديوان امرئ القيس، أساساً للطبعة العلمية الموثّقة للديوان. وراجعت الروايات والشروح الأخرى للمعلّقة واستفادت منها حيث وجدت ذلك ضرورياً. وترى أن تلك الروايات وإن تضمنّت اختلافاً في بعض الألفاظ وإضافة لبعض الأبيات وإسقاطاً لأبيات أخرى وتحويراً في تسلسل بعضها الآخر، وبالأخص في القسم الأخير من المعلّقة، فإن تلك الاختلافات ليست جوهرية على مستوى البنية الصورية للمعلّقة ولا تؤدّي إلى تغيير جذري لطبيعة النتائج التي ينتهي إليها البحث والتحليل.
الفصل الرابع
خواص وأغراض شعره
____________________________________________
إذا تأملت أبيات امرؤ القيس وجدت فيها الخصائص الاتية، وتكاد هذه تكون صفات الشعر الجاهلي عامةً :
1 - أن القصيده الجاهلية تبدأ بذكر الأطلال والديار والأحبه والفراق ، ولعل حياة الترحال هي التي فرضت مثل ذلك المطلع .
2 - الشعراء الجاهليّون ينتقلون من معنى إلى آخر بغير ربط قوي بين المعاني ثم إن القصيدة الجاهليه تطرق أكثر من غرض ، ففي معلقة امرؤ القيس هذه غزل وفخر ووصف الليل ثم للحصان ، وأخيراً للسحاب . وإذن فالقصيدة الجاهلية تنقصها وحدة الموضوع .
3 - يتحلى في الابيات التي أثبتناها أن امرؤ القيس واسع الخيال ، كثير الصور والتشبيهات ، بل لعله أوسع الشعراء الجاهليين خيالاً.
4 - صور امرؤ القيس كصور جميع شعراء الجاهلية . مستمده من بيئة بدوية . كقوله ( ناقف حنظل، تمطى بصلبه ، اردف اعجازاً ، ناء بكلكل ، كجلمود صخر ، حطه السيل من علِ ، ...... ).
5 -ألفاظ امرؤ القيس سهلة ، وإذا بدا فيها شي من الصعوبة فذلك لبعد الزمن . ثم إن هذه الألفاظ في مجموعها تميل للخشونة والفخامة أكثر من ميلها إلى الرقة والعذوبة.
وأجمع النقّاد بأنّه شاعر وجداني وله المنزلة الاُولى بين الشعراء الجاهليّين، حيث قالوا في معلّقته ( قِفا نبكِ ) التي تتكوّن من ثمانين بيتاً: إنّه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في بيت واحد، فهو أوّل شاعر أطال الوقوف على الأطلال وبكى، وإن كان قد سبقه الشاعر ابن جذام; لذلك فإنّه أمير لهو وصيد ومغامرات وبطل متشرّد.
كان امرؤ القيس ذا نفس عاطفيّة شديدة الانفعال، فشعره يمتاز ببديع المعنى ودقّة النسيب ومقاربة الوصف، فمعلّقته تحتوي على الهمّ والغمّ والبكاء على الحبيب ومنزل الحبيب، وفيه الغزل العفيف والماجن، وفيه وصف الليل، خاصّة ونحن نعلم أنّ ابن البادية يزداد همّه في الليل، فتلاحظ في شعره اللهو والذي يحزّ في قلب الشاعر صفة التشرّد بعد حياة الترف التي أدّت إلى أن يسكب الشاعر عبرات تسيل على أقواله الغزليّة لتطغى حرارة حسراته فيقول:
قِفا نبكِ مِنْ ذكرى حبيب ومنزل بِسِقْطِ اللوى بين الدخول فحومل ِ
تَـرَى بَعَرَ الأرْآمِ في عَرَصاتِها وقِـيْعَانِهـَا كأنّـَهُ حَـبُّ فُلْفُلِ
كأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَـوْمَ تَحَمَّلُوا لَـدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ
خصصت كتب التراث جانباً لا يستهان به للعناية بشعر امرؤ القيس وجمعه وشرحه والتعليق عليه لاسيما معلقته المشهورة التي تعتبر واسطة عقد المعلقات الجاهلية ، ولقد جمع شعر امرؤ القيس وضمنته دواوين ظلت مخطوطة طويلاً وكان أول من جمع شعره هو أبو سعيد السكري ثم أبو العباس الأحول ومن أبرز العلماء الذين جمعوا شعر امرؤ القيس وشرحوه أبو بكر البطليوسي والأعلم الشنتمري .
تضمنت معلقة امرؤ القيس معظم دواوين شعره فهي واحدة من أشهر المعلقات الجاهلية نالت من الحظوة والمكانة والعناية والسيرورة وذيوع الصيت ما لم تنله معلقة أخرى وربما لمطلعها الذي وقف فيه الشاعر واستوقف وبكى واستبكى وربما لما تضمنته من المعاني والصور والمشاهد الحية التي تأسر اللب وتثير أرق المشاعر والأحاسيس والمطلع هو التالي :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
تتألف معلقة امرؤ القيس من ثمانين بيت ونيف وهي تبدأ بالوقوف على الطلل وبكاء الأحبة من (1 ـ 8 ) يلي هذه الأبيات قسم ثان يؤلف معظم أبيات المعلقة وفيه يتحدث الشاعر عن مغامراته وذكرياته وبخاصة تلك المتعلقة بيوم دارة جلجل أما الأقسام الأخرى فهي عبارة عن مقاطع صغيرة تحدث فيها الشاعر عن الليل والوادي والصيد ويختمها بوصفه البرق والسيل.
ومن أروع شعر امرئ القيس معلقته التي نظمها في وصف واقعة حدثت بينه وبين حبيبته وابنة عمه عنيزة بنت شرحبيل، وهذه المعلقة هي إحدى القصائد التي قيل ان العرب بلغ من تعظيمهم إياها أن علقوها على أستار الكعبة، ومن هنا سميت بالمعلقات. وفي ذلك يقول صاحب العقد الفريد: "وقد بلغ من كلف العرب به (الشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد ميزتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها في أستار الكعبة.. فمنه يقال مذهبة امرئ القيس ومذهبة زهير.. والمذهبات سبع. وقد يقال لها معلقات".
يعرف وزن بيت معلقة امرؤ القيس بالبحر الطويل حيث ينتهي كل بيت بتفعيلة مزدوجة وبصوت " لي " يقول المستشرقون إنها الأنموذج الذي استخدمه باقي شعراء المعلقات تقريباً وأسس لمدرسة جديدة في الشعر العربي قبل ذلك. بين المعلقات السبع هي التي تحتوي على أهم العناصر الإنسانية والطبيعية وأقلها قدحاً، كما أنها الأسهل للفهم. باستثناء النقل المفاجيء من موضوع إلى آخر، ما هو مشترك بين المعلقات كلها، هناك قليل من الإرباك أو ما يصعب فهمه. يبدأ الشاعر بمغامراته الغرامية المروية بواقعية ثم يذهب إلى وصف الليل في الصحراء والسحر وامتطاء جواده، وقيادة الضباء والاحتفال عند الغروب. تنتهي القصيدة بصورة عاصفة مفاجئة بيت التلال، قطعة تعتبر أرفع مستوى من الشعر وصل إلينا من شعراء الصحراء. إنها أول وأسهل المعلقات السبع ومبنية بأقل فن واع لذاته.
وامتاز شعر امرؤ القيس بشدة الأسر ورقة اللفظ وجزالة التعبير وعذوبة الأسلوب وبالنزعة القصصية وبالحوار الذي غلب على مغامراته وبالمعاني التي قلده فيها الآخرون فكان رائد الشعر والمبتكر لجمال استعاراته وتشبيهاته وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال:
" ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها ".
كما أن امرؤ القيس له مكانة عالية عند الشعراء حيث اعترف له الفرزدق بالزعامة والشاعرية ، وقد سُئل لبيد الشاعر المشهور عن امرؤ القيس فقال عنه أنه أشعر الناس . أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه لما سأل أحدهم عن أجود العرب قيل له حاتم الطائي قال فمن شاعرها قال امرؤ القيس.
خــاتمــة
يعتبر شعر امرئ القيس نموذج رفيع للشعر العربي في الجاهلية، ويمتاز شعره بروعة المعاني وحلاوة التمثيل، وجمال الصور، واشراق الديباجة. ويقال ان الشعر بدئ بامرئ القيس لأنه أول من قصد القصائد، وكان الشعر قبله لونا خمن الرجز ونوعاً من الحداء.
ويعد الأسلوب القصصي من أبرز المميزات التي تحدد شعر امرئ القيس. وقد جرى عمر بن أبي ربيعة في الحجاز على نمطه، ونسج على منواله.
قال الفرزدق: "امرؤ القيس أشعر الناس" وقال أبو عبيدة: "أشعر الناس امرؤ القيس، ثم زهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة". ولعل امرأ القيس كان من أشد الشعراء تعلقاً باللذة العاجلة والمتعة الطارئة، فهو يريد أن ينهب اللذات سراعاً، ويشرب كؤوس الحياة غداقاً قبل أن تعدو عليه المنون، وتنشب فيه المنية أظفارها وهذا واضح فى كثير من شعره.
كان امرؤ القيس أول من وقف على الاطلال واستوقف عليها، وبكى من ذكر الأحبة، وذرف الدموع على الأيام الخوالي.
ظل امرؤ القيس إلى عصور طويلة مرجع في اللغة يستشهدون بألفاظه للدلالة على المعاني وخاصة الغامض منها ، ترجم ديوانه إلى اللاّتينيّة والألمانية ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية هذا الشاعر الذي كان مثالاً يحتذا في الشاعريه والبراعة في استخدام التشابيه والاستعارات واستخدام الألفاظ ووضعها في موضعها المناسب لجهة الدلالة على المعنى والإصابة في المدلول.
قائمة المراجع
( 1 ) طبقات فحول الشعراء - محمد بن سلام الجمحى ت 231هـ
تحقيق : محمود محمد شاكر - دار المدنى - جدة1400 هـ - 1980م
تحقيق : محمود محمد شاكر - دار المدنى - جدة1400 هـ - 1980م
( 2 ) شرح القصائد التسع المشهورات - أبو جعفر النحاس ت 338 هـ
تحقيق : أحمد خطاب - دار الحرية للطباعة - بغداد 1973هـ
تحقيق : أحمد خطاب - دار الحرية للطباعة - بغداد 1973هـ
( 3 ) ديوان امرئ القيس - شرح السندوبي - ص 200
( 4 ) بنية القصيدة الجاهلية : الصورة الشعرية لدى امرئ القيس
د. ريتا عوض دار الآداب - بيروت 1992- ص 153- 165
( 5 ) صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار - محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي
الجزء الأول – ط2 ضبط وتصحيح : محمد محيي الدين عبد الحميد 1972- ص6- 8
الفهرس
مقدمة
|
2
|
الفصل الأول
امرؤ القيس – اسمه – كناياته – نسبه
|
3
|
الفصل الثانى
نشأته وحياته الإجتماعية
|
7
|
الفصل الثالث
معلقة امرؤ القيس – تعريف ونقد
|
12
|
الفصل الرابع
خواص وأغراض شعره
|
20
|
خاتمة
|
25
|
قائمة المراجع
|
26
|
بحث عن امرؤ القيس
0 التعليقات
تفضل بإبداء رأيك وإضافة تعليق ويرجى إتباع الإرشادات التالية
لكي يتم إرسال التعليق بشكل صحيح يرجى تحديد ملف التعريف وذلك بالضغط على السهم
الموجود أمام كلمة (التعليق بإسم) وإختيار أحد الخيارات الموجودة وإذا لم تكن تمتك أحدهم
فيمكنك التعليق بإختيار أحد الخيارين الأخيرين (الإسم وعنوان url) أو (مجهول)
وتذكر
ما مـن كاتب إلا سيفـنى ** ويبقي الدهر ما كتبت يداهُ
فلا تكتب بكفك غير شئ ** يسرّك في القيامة أن تراه