التسامح وأثر إنتشاره في المجتمع

مدونيتا

العالم بمختلف قاراته أصبح فضاء مكشوفا بما تقدمه وسائل الاتصال الحديثة من لحظة لأخرى، بفضل التقدم العلمي وسعته، وانفتاح المجال المعرفي ، في كل بلدان العالم، وإشاعة ما كان مكتوما عند بعضها، من خبرات وثقافات وأنماط عيش متنوعة، فولّد هذا التقارب جدلا جديدا، بين مختلف المجموعات والشعوب، وكل مجموعة أو شعب بما لديها فرحة ومعتزة، ولتلافي الوقوع في الإفراط أو التفريط، والارتماء في أحضان التطرف والتعنت، اهتدت كل المعتقدات إلى عقد ميثاق يكون وسطا بين الشدة والتساهل وبين الإفراط والتفريط.    

 فأعلنت كل الأديان عن تمسكها بفضيلة التسامح، حتى يقع إرساء مجتمع عالمي مدني يسوده الحب والوئام، والتسامح يتضمن عديد الدلالات منها القبول والموافقة، والتساهل واليسر، وكذلك الجود، والكرم، والسخاء والعفو. والسماحة أكمل وصف لاطمئنان النفس وأعون على قبول الهدي والإرشاد ولها أثر في سرعة انتشار الشريعة وطول دوامها، إذ كشف لنا التاريخ أن سرعة امتثال الأمم للشرائع والدوام على اتباعها كان على مقدار اقتراب الأديان من السماحة، وقد حافظ الإسلام على استدامة وصف السماحة لأحكامه فقدّر لها أنها إن عرض لها من العوارض الزمنية أو الحالية ما يصيّرها مشتملة على شدة، انفتح لها باب الرخصة المشروع بقوله تعالى "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" "البقرة 173"، وحسب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه".
على هذا الأساس أقدم الإنسان تدريجيا على التخلص من التعصب وهو نقيض التسامح، نظرا لما يتركه التعصب من آلام وأحزان، ولما يرسيه التسامح من توادد بين الناس وتفاعل بين الأفكار والمعتقدات، وإثراء للإنسانية وسعادة للفرد وللمجموعة؛ ومن الخطإ فهم التسامح فهما مضادا لحقيقته، إنه ضد الجمود وضد الجحود وضد التشدد وضد التسيب، وفي نفس الوقت يعني الاعتدال والتوازن .

وبما أن الإنسان قد عرض نفسه تلقائيا لحمل الأمانة، أمانة التكاليف الضخمة التي أشفقت منها المخلوقات العظيمة من السماوات بما فيها من شمس وقمر وكواكب ومن الأرض بما تحمل من جبال ووهاد وأنهار وأشجار، وهي ترمز إلى القوى الروحية والقوى المادية، والجبال ترمز إلى الاستقرار والثبوت، وصلابة القوى الطبيعية كلها هذه جميعها، رفضت مذعورة مشفقة، وأحجم الله عن إكراهها فاحترم رفضها، ولكن الإنسان كان ظلوما جهولا لأنه أقدم على مغامرة، وبالغ في تقدير قواه، وبحمله هذه الأمانة أكد حريته وإرادته فيما يفعل وفيما يذر، ومن ثم فهو يتحمل مسؤولية اختياره حتى يكون جزاؤه على قدر عمله "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" "الزلزلة 8- 9". 


إن الأمانة في الإسلام واسعة الدلالة تشمل جوانب حياتنا كلها وتلازمنا في علاقتنا بأنفسنا، وعلاقتنا بخالقنا، وعلاقتنا بأسرتنا، وبالمجتمع الذي نعيش فيه، ومناطها جميعا شعور المرء بتبعته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه بأنه مسؤول عنه أمام ربه، فكل ما وهبنا الله من نعم أمانة بأدينا، فلا ينبغي أن نفرّط فيها، ولو فقه كل فرد في المجتمع دوره فيه وفقه ما يجب أن يقوم به والتزم بذلك، ونفذه لسعدت الأمة وسعد أبناؤها جميعا واستحقوا الأمن الذي وعد الله به المؤمنين المخلصين.


الإسلام دين الله، "إن الدين عند الله الإسلام" "آل عمران 19" ولا دين عند الله غيره "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" "آل عمران 84"؛ فكان في طليعة الأديان أعلن أنه "لا إكراه في الدين" "البقرة 255" وتوجه الله إلى رسوله عليه الصلاة والسلام قائلا محذّره من إكراه الناس على اعتناق الإسلام دينا "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" "يونس 99". والمسيحية اختزلت الإنجيل في جملة معبرة تنسب للسيد المسيح "لم آت لتدمير القانون وإنما لإتمامه" وأقرّ ميثاق الأمم المتحدة في ديباجته ما يلي "نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معا في سلام وحسن جوار".


لقد آلت بلادنا على نفسها عبر التاريخ قديمه وحديثه، أن تواجه التطرف مهما كان مصدره، حتى بلغت اليوم مرحلة النضج والوعي، بتشريعاتها ما ساعد على استئصال داء التعصب من جذوره وإرساء مبدأ الاعتدال والتوازن وترسيخ قيم التسامح لإيمانها أنه لا وجود لحياة روحانية حقيقية، بدون حرية دينية، واتباعها بسياسة رشيدة حكيمة؛ فقد قال الله تعالى "قد تبين الرشد من الغي" "البقرة 256" وقال جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم "وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون" "النحل 64".


وأمر الله رسوله أن يدعو أهل الكتاب إلى الحوار الصريح "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" "آل عمران 64" ونهى عن الغلو "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" "المائدة 77". 


لقد هدانا خالقنا إلى أسمى فضيلة أخلاقية وأكرمها في قوله تعالى "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" "فصلت 34" إنها دعوة واضحة إلى التسامح، ولكن المسلمين لم يدّبروا آيات القرآن رغم الإشارة الإلهية في قوله تعالى "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبّروا آياته وليتذكر أولو الألباب" "ص 29".


فالمطلوب من الإنسان أن يغور في كل الآفاق وفي نفسه باحثا عن الحقيقة، وقد وعدنا الله بالمساعدة في قوله سبحانه "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد" "فصلت 53". فلم يبق بعد كل هذا إلا أن نؤمن إيمان اليقين أن الإسلام دين الاجتهاد والتفتح والتسامح والتضامن فيه معين لا ينضب من القيم السامية.


وقد استمد "فولتير" من الإسلام مقولته "كلنا ضعفاء وميالون للخطإ، لذا دعونا نتسامح مع بعضنا البعض، ونتسامح مع جنون بعضنا البعض بشكل متبادل وذلكم هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة، المبدأ الأول لحقوق الإنسان".

 روي عن علي بن أبي طالب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس واصطناع الخير إلى كل بر وفاجر". حقا كما قال إمام الحديث والفقه سفيان الثوري
 "إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشدّد فيحسنه كل أحدفالسماحة سهولة المعاملة وخلق الجود والبذل التيسير وهي حلم والحلم سيد الأخلاق، وهي لين "فمن لانت كلمته وجبت محبته" وهي عفو "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" "الشورى 40".

الإسلام سلام وسلم وخضوع به يحقن الدم ويستدفع المكروه، والمسلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" حديث صحيح رواه مسلم عن جابر.


إذا كنت تمتلك حساب على ( فيس بوك ) يمكنك التعليق وإبداء رأيك من خلال صندوق التعليقات التالي
وإذا كنت لا تمتك حساب على ( فيس بوك ) يمكنك التعليق من خلال صندوق التعليقات الموجود في أسفل الصفحة
وتذكر قول الله عز وجل ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) الاية (18) سورة ق

0 التعليقات

تفضل بإبداء رأيك وإضافة تعليق ويرجى إتباع الإرشادات التالية

لكي يتم إرسال التعليق بشكل صحيح يرجى تحديد ملف التعريف وذلك بالضغط على السهم
الموجود أمام كلمة (التعليق بإسم) وإختيار أحد الخيارات الموجودة وإذا لم تكن تمتك أحدهم
فيمكنك التعليق بإختيار أحد الخيارين الأخيرين (الإسم وعنوان url) أو (مجهول)
وتذكر
ما مـن كاتب إلا سيفـنى ** ويبقي الدهر ما كتبت يداهُ
فلا تكتب بكفك غير شئ ** يسرّك في القيامة أن تراه